مقالعام

ممرّ الذاكرة المبلّل : عن الانتظار والمطر والكينونة المنكشف

قراءة فلسفية ونفسية في تجربة الألم والذات

 

كتب فتحى السايح وسارة احسان 

قراءة فلسفية ونفسية في تجربة الألم والذات
بقلم: د. آمال بوحرب
باحثة وناقدة
نص راقص المطر… حين يبكي العاشق وحده”
من كتاب: “مذكرات رجل – تجربة حياة”
بقلم: فايل المطاعني

المطر صوت الذاكرة ونداء الداخل:
لطالما مثّل المطر في الأدب العربي والعالمي عنصرًا جماليًا محمّلًا بالدلالات بين التطهير والانبعاث، بين الندم والانهيار. هو ليس مجرد مشهد طبيعي بل فعل لغوي مشحون بالعاطفة والرمز.
في التراث العربي اقترن المطر بالحنين والخصوبة، بينما في الأدب الغربي كما لدى فرانز كافكا وتي. إس. إليوت، كان المطر سقوطًا داخليًا، انكسارًا في الذات.
المطر لا يأتي ليغسل الأرض فقط، بل لينبش ما دفنته الأيام في تربة القلب.
في نص فايل المطاعني لا يهطل المطر من السماء فحسب، بل من أعماق العاشق. المطر هنا هو الحبيب، وهو الخيانة، وهو الجنون.
الانهيار من الداخل – الرقص بوصفه احتجاجًا على الألم:
يدخلنا الكاتب مباشرة في لحظة حرجة. رجل يرقص تحت المطر بعد صدمة عاطفية. لا يهرب من الذكرى، بل يتمسك بها.
الرقص هنا ليس فرحًا، بل تمزق داخلي في هيئة حركة.
الرجل لا يملك ما يقوله، لذلك يرقص. كأن الجسد وحده صار قادرًا على البوح.
في تلك الرقصة يعرّي نفسه أمام العالم دون خجل، وكأنه يقول كما قال جورج باتاي:
“لا يعود الإنسان حرًا إلا حين يعرّي ألمه”.
إنه لا يبحث عن تعاطف، بل يعلن احتجاجه الأخير. الحب هنا ليس شيئًا نُشفى منه، بل مرض نقرّر التعايش معه بكل طقوسه.
الهوية الجريحة – صورة الرجل المهزوم في مجتمع يرفض ضعفه:
في خلفية المشهد يتسلّل عنصر اجتماعي حاد. صورة الرجل الذي لا يُسمح له بالبكاء.
لا أحد يقف إلى جانبه. لا أحد يتفهّم أنه لم يُهزم فقط من امرأة، بل من مجتمع لا يعترف بحق الذكر في الانكسار.
يرقص الرجل في الشارع، والكل يراه مجنونًا. تلك الوصمة ليست فقط تجاه سلوكه، بل تجاه منطق الذكورة ذاته.
المجتمع يدين انفعاله بدل أن يتأمّله.
يتحوّل النص إلى مرآة لكثير من رجال هذا العصر، الذين يُعاقَبون على حساسيتهم، وتُرفض إنسانيتهم حين لا تتوافق مع الصورة النمطية للقوة الصامتة.
ألم بلا عزاء – البعد النفسي في انكسار القلب
النص ينهض على لحظة ما بعد الصدمة العاطفية، وهي أخطر لحظة في سيكولوجيا الفقد.
العاشق لا يبكي حبيبته فقط، بل يبكي ذاته التي خانها الشعور.
في علم النفس تُعرف هذه اللحظة بـ”اللاشعور الناطق”، حين لا يجد الوعي تفسيرًا لما حدث، فيترك الجسد ليقول ما عجز عنه العقل.
الرقص في النص هو حالة تفريغ نفسي، مشابهة للبكاء أو الصراخ.
لكن الرجل اختار الشكل الأكثر فنية، والأكثر جنونًا في نظر الآخرين، ليصرخ “أنا موجوع”.
المطر لا يواسيه، بل يضاعف وجعه، لأنه يذكّره بأن العالم يستمر، بينما قلبه عالق في نقطة الخراب.
الانتظار والوجود – قراءة فلسفية في ضوء كانط و هايدغير :
في تجربة الانتظار تحت المطر، تتجلّى أبعاد فلسفية عميقة تتناول طبيعة الوعي والوجود.
يرى إيمانويل كانط أن معرفتنا بالعالم ليست مباشرة، بل تتشكّل ضمن إطار تصوراتنا الذاتية.
لا ندرك الأشياء كما هي، بل كما تظهر لنا.
من هذا المنطلق، لا يمثّل المطر في النص مجرد ظاهرة طبيعية، بل رمزًا غنيًا بالمعنى ينتجه الوعي الشخصي للبطل.
المطر يصبح “شيئًا في ذاته”، يحتفظ بمعناه الفريد لكل إنسان.
فهو صورة داخلية تعبّر عن حالة البطل النفسية، مرآة لتصوراته، ورمز لغموض يعجز العقل عن استيعابه.

أما مارتن هايدغر، فقد طرح مفهوم “القلق الوجودي” بوصفه مواجهة للعدم.
القلق لا يتعلق بالموت فقط، بل هو إحساس بالانكشاف، بالفراغ الداخلي.
المطر في النص ليس مجرد خلفية مشهدية، بل تجسيد للحظة مواجهة الذات في أقسى صورها.
الانتظار تحت المطر يصبح فعلًا أصيلًا من أفعال الوجود، تجربة انكشاف وصدق مع الذات رغم الألم.
عبور في ساحة المطر – الذاكرة كجرح لا يندمل:

في هذه القصة، يتجسّد المطر ليس فقط كعنصر طبيعي، بل كفضاء تتحرّك فيه الذكرى.
يبدو كأن الذكرى تحت المطر تكتسب حياة جديدة، لا تنتمي إلى الخارج بل إلى الداخل الذي لا يكفّ عن النزف.
كما كتب خوسيه ساراماغو في “العمى”:
“ما أصعب أن تبقى الذكرى حيّة فيك بينما العالم ينسى”.
الانتظار هنا لا يرتبط بزمن محدد، بل يمتد كأفق داخلي، كندبة مفتوحة على قلب الذاكرة.
نجد صدى ذلك في سرديات إلياس خوري ومحمود درويش، حيث يصبح المطر هو الكفن والميلاد معًا.
تتعمّق القصة في تكرار الشعور لا الحدث. فالبطل يصرّ على ألّا ينسى، لأن النسيان قد يكون خيانة لهويته العاطفية.

بلاغة التكرار واستراتيجية الصمت:

يتكرّر مشهد الانتظار دون تغيّر كبير.
البطل جالس، المطر نازل، والملامح شاحبة.
لكن التغير يحدث في توتر الداخل.
الصمت ليس فراغًا بل امتلاء.
هو البعد الذي تتشكل فيه الذاكرة كلما انهمر المطر.
التكرار هنا دفاع ضد النسيان، ضد الموت الرمزي للعلاقة.
وهكذا، يتحوّل النص إلى مسرح داخلي للذاكرة، حيث يُعاد كل شيء لا لينسى، بل ليُعاش من جديد.
في الحب حين يصير الزمن جرحًا

لا يحدّد النص زمنًا معيّنًا ولا مكانًا واضحًا.
لكن القارئ يدرك سريعًا أن المكان الحقيقي هو “الداخل”، وأن الزمن هو ماضٍ لا يزال حاضرًا.
الحب في القصة ليس علاقة متبادلة، بل فعل حضور أحادي، كما وصفه رولان بارت في “شذرات من خطاب في العشق”:
“العاشق هو من ينتظر، أما المحبوب فهو دائمًا متأخر”.
السارد هنا هو هذا العاشق، الذي لا ينتظر حضورًا بقدر ما ينتظر علامة تؤكد أن ما عاشه لم يكن وهمًا.
حتى حين لا تأتي نورة، يستمر في الانتظار، لأن غيابها هو الشكل الوحيد الباقي له ليشعر أنها كانت موجودة.
ظلّ لم ينطفئ
لا تنتهي القصة لأن الانتظار لم يُحسم، والظل لم يذبل.
وفي هذا الانفتاح، تكمن قوة النص، حين يتركنا في مواجهة ذواتنا.
نُعيد طرح الأسئلة: هل نحن ننتظر الآخر؟ أم ننتظر أنفسنا في مرايا الغياب؟
القصص التي تبدأ بالمطر لا تنتهي بالخلاص، بل تظل تتكرّر كلما بلّلتنا السماء بذكريات لم تجف

# ممر الذاكرة