أخباراتصالات وتكنولوجياعام

أين تقع أكبر حاضنة للشركات الناشئة في العالم؟

هل يمكن لرئيس دولة معتدل يتمتع بخبرة مهنية في القطاع الخاص، وأبرز ملياردير تقني في فرنسا، وأفضل حاضنة أعمال في العالم، تحويل البلد الأوروبي ذي الاقتصاد المتباطئ إلى مركز ريادي نشط؟

تقع أكبر حاضنة للشركات الناشئة في العالم داخل محطة شحن شيدت منذ نحو قرن، وتضم 3 آلاف ريادي أعمال ناشئ على مساحة 366 ألف قدم مربع. في حين تدفع أكثر من 30 شركة رأس مال استثماري، مثل (Accel Partners) و(Index Ventures) رسوم عضوية سنوية قدرها 6.100 دولار للحصول على امتياز الاستثمار في الموقع. كذلك تشغّل (Facebook) و(Microsoft) برامج لاختبار الشركات التي من المحتمل شراؤها، بينما تركز (Amazon) و(Google) على اكتشاف المواهب.

عند التجول هناك، ستشاهد عملاً فنياً بقيمة 20 مليون دولار للفنان جيف كونز، ومكعبات عائمة للاجتماعات، ومساحة معتمة للاسترخاء. تقول مديرة الحاضنة روكسان فارزا من كاليفورنيا، وهي تسحب الستارة فترى أحدهم يستريح مستلقياً على الأرض: “ينام بعضهم هنا أحيانًا”.

مع ذلك، فإن الميزة الأبرز هناك هي الأرض الواقعة تحت ذلك المجمع، والمعروفة باسم (Station F) في العاصمة الفرنسية المشهورة بإضراباتها الكثيرة، والعمل الإلزامي حتى 35 ساعة أسبوعياً، إلى جانب العمالة المكلفة. وهناك حيث تبلغ ضريبة الأجور %42، ويبدو “قانون العمل” معقداً جدًا بـ3 آلاف صفحة دونت في مجلد أحمر على مر السنين- أثبتت بعض الديمقراطيات الغربية أنها أقل ملاءمة لريادة الأعمال والنمو.

وبعد افتتاح (Station F) منذ نحو عام واحد، يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة حصرية مع (Forbes): “كان رد الفعل الكلاسيكي طوال 3 أو 4 عقود في فرنسا تجاه مساعي التغيير، يتمثل بالادعاء في أننا سنقاوم التغيير”.

في العام الماضي، انتخب ماكرون (39 عاماً) كأصغر رئيس فرنسي على الإطلاق. إلا أن عمره أقل أهمية من مسيرته، فقبل السياسة قضى أكثر من 3 سنوات كمصرفي استثماري في (Rothschild) وحاول أيضًا تطوير شركة ناشئة في مجال التعليم. لطالما تحدث السياسيون الفرنسيون، من شيراك إلى هولاند، عن الإصلاح لعقود من الزمن، لكنهم خضعوا للضغوط من قبل المتقاعدين والاتحادات، وغيرهم من محدودي التفكير الذين يعارضون التغيير. وبطبيعة الحال، تعرض ماكرون لذلك إلا أنه راهن خلال رئاسته بأنه سيقدم إصلاحات. يقول: “ربما يريد بعضهم تنظيم الإضرابات لأسابيع أو شهور. علينا أن ننظم أنفسنا. أما أنا فلن أتخلى عن طموح الإصلاح، لأنه ليس هناك خيار آخر”.

لهذا، سرعان ما سعى إلى تشريع مجموعة واسعة من قوانين التوظيف الجديدة، مما جعلها أكثر سهولة. كما خصص 18 مليار دولار في إعادة التدريب المهني على مدى السنوات الـ5 التالية، بما في ذلك توسع لافت للتأمين ضد البطالة يشمل أعداداً متزايدة من العمال الفرنسيين، لحسابهم الخاص وأصحاب الشركات الصغيرة. كما عمل على تخفيض الضرائب على الثروة، والمكاسب الرأسمالية، وتعويض العمال، وتبسيط كل شيء”.

وقد كشف ماكرون لـ(Forbes) أنه يعزم في العام المقبل إنهاء “ضريبة المغادرة” ونسبتها %30 على رواد الأعمال الذين يحاولون تصريف أموالهم خارج البلاد، التي أحبطت في السابق مساعي الأجانب لإنشاء الشركات فيها، وشكل حافزاً قوياً للفرنسيين على إنشائها في مكان آخر. بذلك، يسير ماكرون في الاتجاه المعاكس للرئيس ترامب، الذي هدد بشراسة الشركات الأمريكية على التوسع في الخارج، ووعد بتقديم الدعم لأولئك الذين يبقون استثماراتهم في البلاد.

يوضح ماكرون: “الناس أحرار في الاستثمار أينما يريدون. فأنت إذا أردت الزواج مثلاً، عليك ألا تقول لشريكك أنه لن يكون حراً في الطلاق ما دام قبل الارتباط بك. ولأني لست متأكداً من أن هذه الطريقة المثلى لحصول المرء على من يحب، أنا مع الحرية في الزواج والطلاق”.

فيما برزت هذه السياسات في الوقت المناسب. فمن الناحية الديموغرافية، ستتفوق فرنسا على ألمانيا كأكبر الدول الأوروبية من حيث عدد السكان، كما أنها تضم نسبة مرتفعة جدًا من المتعلمين، مما جعلها تصنف كأفضل دولة متعلمة في القارة، فضلاً عن عدد كبير من معاهد الهندسة للنخبة. يقول جوناس بريزنج، الرئيس التنفيذي لـ(ManpowerGroup): “تتمتع فرنسا بموقع مميز من منظور النمو”. وفي الوقت الذي تتعثر فيه بريطانيا بخروجها من الاتحاد الأوروبي، تعمق بسلوكها آثار أهم حدث في التاريخ الاقتصادي الحديث. ولا تزال ميركل متعثرة سياسياً بسبب تحالفها الضعيف. من جانب آخر، في الوقت الذي يتباهى فيه ترامب بقوة الاقتصاد الأمريكي، فإن سياساته التجارية الحمائية تتفق مع سموت وهاولي أكثر منها مع ريغان وكلينتون.

إن إجراءات ماكرون الاقتصادية أحدثت تأثيراً بالفعل. ففور صدور إصلاحات العمل في يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلنت عملاقة التجزئة الفرنسية (Carrefour) وشركة صناعة السيارات (Groupe PSA) عن 4600 وظيفة. ووفقاً للمستشارين الاقتصاديين في فريق ماكرون، فإنه في الفترة نفسها، أعلنت الشركات الأجنبية عن استثمارات جديدة وصلت إلى 12.2 مليار دولار. وخصصت (Disney) 2.4 مليار دولار لتوسيع (Disneyland Paris) واستثمرت (SAP) الألمانية 2.4 مليار دولار في مراكز البحث والتطوير ومسرعات أعمال الشركات الناشئة. كذلك تنوي (Facebook) و(Google) توظيف 150 متخصصًا في مجال الذكاء الصناعي في العاصمة الفرنسية.

كما أن الشركات الناشئة في تحسن مستمر هناك. ووفقاً لأحدث البيانات من شركة بحوث السوق (Dealroom) فإن الغموض السائد حول الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي يضعف رؤوس الأموال الاستثمارية في لندن. وقد تفوقت التمويلات الفرنسية للمرة الأولى على سائر أوروبا في العام الماضي؛ ففي يناير / كانون الثاني الماضي، كان للشركات الناشئة الفرنسية أكبر تمثيل أجنبي في معرض الإلكترونيات الاستهلاكية في لاس فيغاس، وكانت أقل بـ6 شركات فقط من مجموع الشركات الأمريكية الناشئة.

في عام 2017، لم يكن لدى فرنسا سوى 3 شركات ناشئة تقدر قيمتها بـ1 مليار دولار، في المقابل كان في المملكة المتحدة 22 شركة من هذا النوع و105 شركات في أمريكا. لكن لا يمكن استدراك عقود من الثقافة المعارضة لريادة الأعمال فوراً، بالرغم من أن مكونات التغيير متوافرة. يقول جون تشامبرز، الرئيس التنفيذي السابق لـ(Cisco) الذي أدار نحو 200 مليون دولار من الاستثمارات في الشركات الفرنسية الناشئة، قبل أن يترك منصبه في عام 2015: “إن الدول التي نعتقد أنها بطيئة جداً تتحرك اليوم أسرع بـ10 مرات مما نحن عليه. ولدى فرنسا اليوم الرئيس المناسب في الوقت المناسب”. بينما يضيف المستثمر البريطاني، ساول كلاين، الذي استثمر مؤخرًا وساهم في نجاح الشركة الناشئة البريطانية (Deliveroo) التي واصلت متابعة السوق الفرنسية المزدهرة، مشيراً إلى أنه مقيم قرب خدمة ركوب القطارات (Eurostar) المتجهة إلى باريس: “إنها أقرب من أدنبرة أو دبلن.”

في العصر التقني، خسرت فرنسا عدداً من الأجيال. وفي الوقت الذي ظهر فيه موسك وبيزوس وزوكربيرغ، عقب ظهور غيتس وجوبز وإليسون، نظر رواد الأعمال الفرنسيون إلى فرصهم المحلية، ثم حجزوا تذاكر السفر إلى كاليفورنيا للعمل لصالح الأمريكيين. في الواقع، يعمل في وادي السليكون حوالي 60 ألف فرنسي، وهم أكثر من أولئك الآتين من بريطانيا وألمانيا أو أي بلد أوروبي آخر.

أما الاستثناء الرئيس فيتمثل في كزافييه نيل، ثامن أغنى رجل في فرنسا، حيث تقدر ثروته بـ8.1 مليار دولار. ويمكن القول إن هناك مصدرين رئيسين لثروة أصحاب المليارات الـ40 في فرنسا: التجزئة أو الميراث (أو بالنسبة للكثيرين يتوافر المصدران على حد سواء). لكن نيل هو الوحيد الذي يرجع مصدر ثروته إلى الإنترنت. فقد كان وهو في الـ17 من عمره أشبه بقرصان حواسيب، حين زور توقيع والده للحصول على خط هاتف ثانٍ، كما طور غرفة دردشة مستعارة. ثم في سن الـ24، باع شركة نشر إلكتروني بأكثر من 300 ألف دولار. وفي عام 1994، عندما بدأت الشبكة العالمية في الظهور، أطلق نيل (Worldnet) أول خدمة إنترنت رئيسة في فرنسا، بالطريقة التي كان يعمل بها ستيف كيس من خلال (AOL) في أميركا. وكما هو الحال مع كيس، كان توقيته مناسباً: فقد باع (Worldnet) مقابل أكثر من 50 مليون دولار في عام 2000، قبيل انفجار فقاعة شركات الإنترنت.

لكن في الوقت الذي كان ذلك سيجعله بطلاً في وادي السليكون، أدى انتماؤه إلى الطبقة الوسطى وعدم تعلمه بشكل كافٍ، إلى بعده عن نخبة رواد الأعمال الفرنسيين. يقول لوش لو ميور، مؤسس مؤتمر (LeWeb) الذي أسس العديد من شركات التكنولوجيا الفرنسية، قبل أن ينتقل إلى وادي السليكون: “لم يكن الناس يحبون رواد الأعمال كثيراً. وحتى لو نجحت بينهم لا يقابلونك بحفاوة، بل تشعر كأنك غريب عنهم”. لقد رفض المديرون التنفيذيون التعامل معه، وهو موضوع لا يحب نيل مناقشته، حيث يقول عن تلك الأيام: “لقد نسيت كل الأشياء السيئة”. لكن في ذلك الوقت، حقق في النهاية ثروة طائلة من خلال شركة الاتصالات (Iliad) التي لمعت بفضل عقودها المبرمة بنصف السعر، في قطاع الهواتف المحمولة بفرنسا على مدى العقد الماضي.

كما حقق ثروات هائلة في عام 2013، حيث حصد أرباحًا بقيمة 400 مليون دولار من خلال بيع %3 من أسهم (Iliad) وشجع المزيد من رواد الأعمال الفرنسيين على العمل مثله. لكن إذا كان التغيير الحقيقي في فرنسا مستحيلاً من دون قيادة سياسية، من الصحيح أيضًا أن سياسات الحكومة لا يمكنها القيام بأي شيء ما دام القطاع الخاص غير مستعد للاستجابة. وعليه فقد وجد ماكرون في نيل شريكًا مناسباً. في حين تمثلت أولى نفقاته الضخمة بـ57 مليون دولار لإنشاء (42) وهي مدرسة غير ربحية في باريس علمت الترميز لـ3500 طالب، في حين لم ينهِ %40 منهم دراستهم الثانوية. يقول فيل ليبين، المؤسس المشارك لتطبيق الإنتاجية ((Evernote: “إن إنشاء (42) كان من أكثر الأعمال إثارة للإعجاب على الإطلاق.”

ومن هناك، أطلق نيل (Kima Ventures) لدعم الشركات الناشئة، مع التركيز على فرنسا، وعين المستشار السابق للاندماج والاستحواذ جان دي لا روشبروكارد ليديرها. فاقترح الأخير استثمار المزيد من الأموال في عدد أقل من الشركات، ومضاعفة الاستثمار في الشركات الناجحة. وهي فكرة رفضها نيل: “لست بحاجة إلى المزيد من المال. أنا أفعل ذلك لأنه أمر ممتع فقط. إنه مفيد ولا أحد يفعل ذلك”. ووفقاً لـ(Pitchbook) تزعم (Kima) اليوم أنها أكثر صناديق المستثمرين الملائكة نشاطًا في العالم، مع 518 استثمارًا على مدار 8 أعوام. ويضيف دي لا روشبروكارد أنه يرى نيل مرة أو مرتين في العام، لكنه يسمع منه باستمرار، ويطلب أحيانًا من طلاب الكليات التجارية مراسلته بالبريد الإلكتروني، لمعرفة ما إذا كان سيرد خلال ساعتين. يقول: “انه يفعل ذلك في كل مرة”.

لقد كان وجود مئات الاستثمارات الفرنسية في الماضي غير ممكن في بلد يعج بالقوانين المتحفظة. وببساطة يبدو استئجار شقة في باريس أشبه بصراع بسبب قوانين الملكية غير المرنة؛ إذ تحتاج إلى عقد عمل بدوام كامل. ولهذا يجد رواد الأعمال والعاملين في الشركات الناشئة صعوبة فيما يتعلق بالسكن. كذلك يجب على الموظفين تقديم إشعار قبل شهرين إذا كانوا يريدون المغادرة. وقبل بضعة أشهر من تنصيب ماكرون، نفذت فرنسا قانون “الحق في عدم التواصل” مما يمنح الموظفين تفويضًا قانونيًا وحافزًا لتجاهل رسائل البريد الإلكتروني في وقت متأخر من الليل.

علاوة على ذلك، لم يكن هناك مركز للنشاط الريادي. وكان الأقرب في باريس هو حي سانتييه، حي الموضة، حيث إن تضاؤل احتمالات البيع بالتجزئة أتاح التأجير على المدى القصير.

أثناء ذلك الوقت، التقى كزافييه نيل بروكسان فارزا الآتية من ولاية كاليفورنيا، التي أدارت برنامج شركة (Microsoft) للشركات الناشئة (Bizspark) في فرنسا. وحين أرسل لها بريداً إلكترونياً في يوليو/ تموز 2013، عنوانه “صباح الخير روكسان” يعرض عليها فيه تحمل التكاليف إذا بحثت عن أفضل الأماكن في العالم لإقامة مقرات للشركة الناشئة، ردت ببعض الصور والملاحظات، التي أرسلها نيل بدوره إلى مهندسه المعماري، جان مايكل ويلموت، مع توجيهات بإضفاء التحسينات على أفضل الميزات والخصائص.

إن نيل هو الممول الوحيد، حيث أنفق أكثر من 300 مليون دولار لبناء (Station F) و3 مبانٍ سكنية قريبة، تتسع لإيواء 600 رائد أعمال. وأنفق كما يقول “مئات الملايين الإضافية” لبناء فندقين أحدهما من فئة 5 نجوم. يقول: “هذا كله عمل خيري. إنه هبة”.

لكن حتى يسمح لها بدخول (Station F) “يتعين على الشركات الناشئة التقدم للمشاركة في واحد من 32 برنامجاً حول مجال ما. بينما تختار (Microsoft) نحو 10 شركات ذكاء صناعي ناشئة، وتنتقي (Facebook) نحو 15 شركة ناشئة في مجال البيانات” وفقاً لرائد الأعمال في التأمين الصحي الرقمي، جان تشارلز صامويليان، الذي استفاد من برنامج (Facebook) وجمع 28 مليون دولار أعلن عنها في أبريل/ نيسان الماضي. أما عن برنامج (Station F) الداخلي، فقد تقدمت إليه للمشاركة نحو 4 آلاف شركة ناشئة من 50 دولة في العام الماضي، واختير منها 200 شركة فقط.

في خضم كل هذه التحركات والأنشطة، تجمع المستثمرون، وعرض مقدمو الخدمات كل ما أمكنهم تقديمه، من خدمات الشحن إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد. كما وفرت الحكومة الفرنسية ما يشبه خدمة الاستقبال والإرشاد، حيث يستطيع رواد الأعمال التغلب على صعوبات الحصول على تراخيص العمل ونماذج الضريبة في مكان واحد. يقول طوني فاضل، الموظف التنفيذي البارع في (Apple) الذي ساعد على ابتكار جهاز (iPod): “إنه أشبه بشراء الطعام من مطعم أميركي وأنت جالس في السيارة”. وقد أسس فاضل شركة أجهزة تنظيم الحرارة ((Nest وباعها مقابل 3.2 مليار دولار. ثم انتقل بعائلته إلى باريس في عام 2016. إنه نوع جديد كلياً من المهاجرين، منشغل بالعمل في شركة (Station F) والاستثمار في الشركات الناشئة، كما لا يعيقه عدم إتقانه للغة الفرنسية أبداً. وبالمثل، قرر فيل ليبين من شركة (Evernote) إخراج شركة ناشئة أوروبية من (Station F) فيقول: “تحتوي هذه الثقافة على عنصر يرتقي بالأفراد الاستثنائيين فعلاً”.

مع تردد أصوات النقر على آلات التصوير لالتقاط الصور وثرثرة الحشود في (Station F) يوم إطلاقها، سأل ايمانويل ماكرون، أحد أكثر رواد الأعمال الفرنسيين نجاحاً، كيف أسس تطبيق تحديد المواقع الإلكتروني (Zenly) الذي باعه حينها إلى شركة (Snap) مقابل 213 مليون دولار. لم يكن الأمر سهلاً على مارتن الذي أجاب عن السؤال باللغة الفرنسية، بأنه احتاج في وقت من الأوقات إلى تحويل نموذج عمل الشركة كله.

وبعد مرور نصف ساعة، عندما سار ماكرون أمام المئات من مؤسسي الشركات الناشئة ومهندسي البرامج الحاسوبية الذين ملؤوا المكان، سرد قصة عن قطعه وعداً لزوجته قبل 3 أعوام، حينما أخبرها بأنه سيصبح رائد أعمال يوماً ما. لكن مسار الأحداث تغير منذ ذلك الحين.

وأضاف مازحاً: “حولت نموذج العمل” فتعالى الضحك وعمت البهجة.

إن ماكرون يتميز بالمرونة وسرعة التعلم، مما يعطيه فرصة أفضل لفعل ما لم يفعله سلفه. وهو نجل طبيبين، تخرج في أرقى الجامعات التي درست فيها النخبة الفرنسية الحاكمة، ويتمتع بالمصداقية المؤسسية التي لم يكتسبها كزافييه نيل مطلقاً. وقد عمل في بدايات مسيرته المهنية كمساعد لبول ريكور، الفيلسوف الفرنسي الذي بحث طويلاً لإيجاد التوازن بين وجهات النظر شديدة التعارض. كذلك، عمل مصرفياً لدى (Rothschild) ليجني وهو في الـ34 من عمره ما يزيد على 3 ملايين دولار، عقب تقديم المشورة لشركة الأغذية الاستهلاكية الكبرى (Nestlé) لشراء فرع شركة (Pfizer) لصناعة أغذية الأطفال، والصراع لانتزاعه من شركة (Danone) الفرنسية. ثم انضم إلى فريق قيادة حكومة اشتراكية، يتزعمه فرانسوا أولاند.

وكان في البداية نائب رئيس موظفين، لكنه عين في أغسطس/ آب 2014 وزيراً للاقتصاد، متولياً مسؤولية تنفيذ المراحل الأولى من الإصلاحات التي يعمل عليها حالياً. وأثناء توليه هذه المهمات المرحلية، بدأ تطوير فكرة تأسيس شركة ناشئة للتعليم. يقول: “أعتقد أنني أفهم رواد الأعمال ومن يخوضون المخاطر فهماً عميقاً”.

كذلك استغل ماكرون فترة عمله القصيرة في الحكومة بفاعلية. يقول جون تشامبرز، مستذكراً عشاء أقامه عندما استضاف ماكرون وغيره من مؤسسي الشركات الفرنسية الناشئة في مدينة بالو التو: “كان يسأل عن أسباب نجاح وادي السيليكون”. وتحدثوا عن سبب فقدان منطقة “بوسطن روت 128” لمكانتها كمركز تكنولوجيا لمصلحة منطقة “باي ايريا”. ويضيف: “كان يتعلم فقط، ويستقي المبادئ والأصول”.

بعد ذلك، أسس ماكرون الحزب السياسي “اون مارش” لحل المآزق المتسببة في تعطيل تقدم فرنسا. وسرعان ما وجد نفسه محظوظاً جداً. فمبادئه ومعتقداته الوسطية تعالج العجز السياسي في التوجهات اليسارية واليمينية، مما سمح له بالمضي في إصلاح سوق العمل، في الوقت الذي يتحرك فيه لتقديم الدعم المالي للفئات الضعيفة. ولما ظل هو وأعضاء حزبه أصحاب الأغلبية في المجلس التشريعي حتى عام 2022، كان بمقدوره اتخاذ قرارات طويلة الأجل، مثلما يفعل الرؤساء الباقون مدى الحياة، كالرئيس الصيني شي جين بينغ، والروسي فلاديمير بوتين، إنما بأفكار الرأسمالية الغربية المتعلقة بالسوق الديمقراطية الحرة.

في حين أهلته هذه الصفة، كما أشير في آخر زيارة له إلى واشنطن، لينسجم انسجاماً تلقائياً مع الرئيس دونالد ترامب. يوضح ماكرون: “أفهم هذا النوع من الأشخاص بسهولة. وقد ساعدتني خبرتي في إدارة الأعمال مساعدة عظيمة في ذلك”.

غير أن خبرتيهما في إدارة الأعمال مختلفتان تماماً. فطالما سعى ترامب في صفقاته العقارية إلى تحقيق النجاح وإفشال الآخرين، بينما احتاج ماكرون المصرفي إلى تشجيع عقد التحالفات. يضيف الأخير: “بيننا اختلافات في الفلسفة والمبادئ المتعلقة بالعولمة السائدة حالياً”. وهو يستخدمها لصالحه؛ فبعد تنكر ترامب لمصادر الطاقة المتجددة في العام الماضي، نشط ماكرون على الصعيد الاجتماعي، وراح يدعو رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا الخضراء والجامعيين المتخصصين للمجيء إلى فرنسا. وقد جاء ثلثا طلبات المنح التي وردت بعد ذلك، وعددها 1,822 طلباً من أميركا. يقول ماكرون المرحب باستقطاب الشركات المالية البريطانية: “إذا كنت تعمل في دولة لا تملك استراتيجية واضحة حول التغير المناخي، فتلك قضية مهمة ولافتة للعديد من الشركات الناشئة”. فيما تنوي فرنسا تولي دوراً فاعلاً ومؤثراً في هذه المجالات.

لكن إذا كانت (Station F) تمثل نهضة ريادة الأعمال الفرنسية، تبقى بعض العقبات والصعاب القادمة. تقول كارين كو التي أقامت في باريس لدراسة الماجستير في إدارة الأعمال، وتساعد اليوم على إدارة شركة ناشئة لتحليلات البيانات لدور الرعاية، في حاضنة أعمال كزافييه نيل الضخمة: “يفرغ المكان في الساعة الـ7، ويغدو كمدينة أشباح بحلول الساعة الـ8”. بينما يبدو أن ديفيد تشيرمونت، من (Inbound Capital) في العاصمة الفرنسية، ومستشار الشركات الناشئة، هو الوحيد الذي يقول: “يجدر بالناس التوقف عن التفكير في الشركات الناشئة طوال الوقت، فهذا سيؤدي بهم إلى التفكير بالأعمال حتى في أوقات راحتهم”.

لك أن تسأل أي شخص في شركة فرنسية ناشئة، وسيجيب بأن العادات الثقافية والموروثات الحكومية صارمة ولا يمكن تغييرها. لهذا كان تأسيس انتون سولييه لشركة (Mission Food) في باريس خلال العام الماضي، مهمة سهلة في البداية. لكن إخطاراً أرسل إليه في صندوق البريد، نص على دفع شركته الناشئة لتوصيل الطعام ألفا دولار كضريبة توظيف، قبل تعيينه أي موظف. يقول: “هذا جنون!”. مما يرتب على كل شركة ناشئة الحاجة إلى الاستعانة بمحامٍ جيد يتقاضى ما يزيد على 30 ألف دولار سنوياً، للنظر في الأنظمة والقوانين المعقدة والمتشابكة. وعندما توظف شركة حديثة العهد بعض الأشخاص، تتضاعف تكاليف رواتب كل واحد منهم، بسبب المساهمات الإجبارية المتنوعة. كذلك من الصعب فهم كشوفات أو لوائح الرواتب التي تضم 25 سطراً من الاقتطاعات والأرقام.

فيما يقول الرئيس ماكرون، إنه يعكف على معالجة ذلك: “نحن نتخلص من الكثير من الضرائب الصغيرة التي يفترض برواد الأعمال تحملها”. لكن بعضهم يشكون بجدوى التغييرات. في المقابل لم تؤثر إصلاحات ماكرون على شركة (Mission Food) كما يرى سولييه، مشيراً إلى أن بعض التغيرات في قانون العمل من عام 2002 تطبق الآن، بعد انقضاء ما يزيد على 15 عاماً. في حين تشتهر حكومات فرنسا السابقة بالانحياز إلى الصناعات العريقة، مثل: قطاع شركات سيارات الأجرة التقليدي على حساب الشركات الأحدث، كشركات النقل الذكي. يقول الرئيس الفرنسي: “أريد لهذه البلاد أن تتقبل ما هو جديد وغير معهود، وتتعايش مع هذه الشركات”. ثم يستطرد على نحو يدل على شخصية مثالية، ليقول إن الحل هو التنازل قليلاً. كما يوضح قاصداً شركة توليد الكهرباء: “شركاتي الناشئة تزعج شركاتي الكبيرة مثل (EDF)”. لكنني لا أبالي بذلك، فقد قلت لإحداها أنه يتعين عليها الاستثمار في هذه الشركة. وأن أفضل وسيلة للاستمرار هي الدخول كشريك”.

إنها فكرة حسنة، لكن من الصعب على حكومة دولة ما توجيه استراتيجية شركات كانت احتكارية في الماضي. يقول يان هاسكوت، المعجب بماكرون، والذي شارك في تأسيس شركة (Chauffeur Privé) منافسة (Uber): “إنه لم ينفذ ما تحدث عنه”. وقد خسرت شركته الناشئة ما يقارب ثلث سائقيها البالغ عددهم 15 ألف سائق في عام 2017، عندما أقرت الجهات التنظيمية اختباراً نظرياً فائق الصعوبة، في محاولة واضحة لحماية سائقي سيارات الأجرة الأقدم عهداً، الذين كانوا ينفذون احتجاجاً سد شوارع مدينة باريس. يضيف: “لقد فضل ألا يقترب من هذه القضية”.

إن معضلة ماكرون تكمن في استمالة بقية أعضاء حكومته- وأموال الداعمين الملتزمين مع أطراف مثل تلك العاملة في قطاع سيارات الأجرة-إلى جانبه. بينما يؤمن المتشائم كزافييه نيل الذي يجاهر بعدم تصويته حتى لماكرون، عن فهم ودراية، بأن الإصلاح الحقيقي يأتي من جانب رواد الأعمال. وهو يحتاج إلى تضحية، ورواد الأعمال الفرنسيون لا يحبذون بذل التضحيات دائماً. كذلك يوضح مارتن من شركة (Zenly) الذي يصرح بأنه وشريكه المؤسس باقيان “بعيداً عن الأضواء” بعد بيعهم إياها لشركة (Snap): “لا يزال المال يفهم على نحو سلبي هنا”. وفي الأعوام الـ3 الأخيرة، باع نيكولاس ستيغمان شركته الناشئة (Stupeflix) لشركة (GoPro) كما باع بيير فالاد شركة (Sunrise) لشركة (Microsoft) وباع جان دانييل غايوت (Captain Train) لشركة (Trainline). ويقول: “جميعهم غير معروفين لعامة الناس. وجميعهم أبرموا صفقات بمئات الملايين”.

يشعر الأجانب بالراحة تحت الأضواء، ويتقدمون ويتحسنون. تقول كارين كو وهي جالسة في (Station F): “تنتشر في الأجواء هنا مشاعر ودية. إنها ليست أجواء فرنسية أبداً، حيث يمكنك التجول في الأنحاء، والمبادرة لتجاذب أطراف الحديث والتعريف بنفسك. إني أحب ذلك، فهو يذكرني بموطني”.

لقد أصبح وادي السيليكون مركز قوة، لأن خريجيه ساعدوا كل جيل على التطور والتقدم، وفقاً لطوني فاضل الذي يقول: “ستجني (Station F) ومدينة باريس ثماراً وفيرة”. ومن بين الخريجين الجدد المؤسسون المعروفون من (Criteo) شركة تكنولوجيا الإعلانات التجارية الكبرى التي أصبحت شركة مساهمة عامة في عام 2013، وتبلغ قيمتها السوقية اليوم 1.9 مليار دولار. ومن تطبيق النقل الذكي (BlaBlaCar) الذي لا يزال شركة خاصة، لكن قيمتها السوقية تقرب من 1.4 مليار دولار- الذين غدوا مستثمرين ملائكيين في الجيل القادم من الشركات الباريسية الناشئة.

فيما يعزو المزيد من المتقدمين من مختلف أرجاء العالم إلى (Station F) عزمهم الانضمام إليها، بسبب التكاليف العالية في وادي السيليكون، ودونالد ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي- تبدو العوامل الـ3 مستقرة الآن. ولأن فرنسا أضاعت عبر تاريخها مثل هذه الهبات، وهو سبب تحرك ماكرون العاجل، حيث يقول: “في معظم الأحوال، يقرر القادة إجراء الإصلاح مع حلول نهاية فترة توليهم المناصب”. بينما راح هو في المقابل يحدث الزخم ويكثف العمل منذ البداية. وبمجرد إطلاقه مبادراته الرئيسة، يقول: “علينا أحياناً تعجيل تقديم المنافع والفوائد لئلا نغفل عنها في الغد..للتأخير عواقب وخيمة”.