المستشار سلام يكتب: افتتاح المتحف الكبير.. اختبار وطني لوعي وسلوك المصريين أمام العالم

★ رجال الأعمال
في شهر أكتوبر من كل عام ، تستعيد مصر دائمًا روح الإرادة والعزيمة الت صنعت مجدها في التاريخ الحديث. ومع ختام هذا الشهر المجيد، تستقبل مصر شهر نوفمبر بانتصارٍ جديد من طرازٍ مختلف — نصرٍ حضاري وثقافي يُجسِّد عبقرية المصري حين يبني ويُبدع ويُضيء للعالم من قلب التاريخ. ي
ي
في الأول من نوفمبر 2025، ستتجه أنظار العالم نحو القاهرة، ليس فقط لأن المتحف المصري الكبير سيفتح أبوابه أخيرًا أمام الزوار، بل لأن مصر ستقدّم للعالم صورة جديدة من صور عظمتها؛ صورة الإنسان المصري حين يجتمع فيه الوعي والانتماء.
إنه يوم غير عادي… يوم تحتفل فيه مصر بتاريخها الممتد لسبعة آلاف عام، وتُبرهن أن الحضارة المصرية ليست فقط حجارة منقوشة أو آثارًا شامخة، بل سلوكا وثقافة وابتسامة وحُسن تعامل.
يوم تعلن فيه مصر للعالم أن النصر لا يكون فقط في ميادين القتال، بل أيضًا في ميادين الوعي والجمال والمعرفة.
قد يظن البعض أن الافتتاح مجرد حفل رسمي وعدسات تلفزيونية، لكنه في الحقيقة عرض عالمي لصورة مصر والمصريين. فالصورة التي سيحملها كل زائر إلى بلده لن ترسمها الكاميرات وحدها، بل ملامح البساطة والاحترام في كل تفصيلة: في المطار، في الشارع، في السيارة، في الفندق والمقهى والمتحف.
لقد رأيت بنفسي في “إكسبو شنغهاي 2010” -حيث كنت أحد المشاركين بالمعرض ممثلاً عن السفارة المصرية ببكين- كيف تعاملت الصين مع حدثها العالمي بانضباط تام، بدءًا من الاستقبال في المطار حتى مغادرة الضيوف. كل موظف كان يعرف دوره بدقة، وكل متطوع تلقى تدريبًا على فن التعامل مع الزوار، خصوصًا طلاب الجامعات في كليات اللغات والترجمة.
وشهدت شيئًا مشابهًا في “إكسبو هانوفر 2000” بألمانيا، وكنت أنذاك ممثلا عن الهيئة العامة للاستعلامات في جناح مصر ، حيث كان النجاح الحقيقي في التفاصيل الصغيرة: الهدوء، النظام، والابتسامة الصادقة.
والحقيقة أن القصة تبدأ من المطار، فـأول انطباع يكوّنه الزائر عن أي بلد يبدأ من لحظة الوصول. وهنا تكمن أهمية الدور الوطني لرجال الجوازات والجمارك، والعاملين في المركز الصحفي للمراسلين الأجانب — وأثق تمامًا في خبرتهم بحكم عملي السابق بالهيئة العامة للاستعلامات — وكذلك العاملين في شركات النقل والسياحة والسائقين، فكل هؤلاء هم “الواجهة الأولى” لمصر، والمفترض أن يكونوا أول من يقدّم صورة راقية عن وطنه.
ومن الجميل أن تقوم شركات النقل العام والخاص — من التاكسي إلى الباص السياحي — بتنبيه السائقين إلى أهمية الالتزام بالزي الأنيق والنظافة والهدوء، وأن يُفضَّل السائق الذي يمتلك لغة أجنبية بسيطة تمكنه من قول كلمات ترحيب مثل “أهلاً بكم في مصر”، فالكلمة الطيبة والابتسامة الصافية أحيانًا تكون أقوى من ألف إعلان.
أما عن الهدوء، فهو أحد سمات التحضّر. ولنكن صادقين: الضوضاء لا تليق بالعظمة والحضارة المصرية القديمة أو الحديثة.
فلنُظهر في ذلك اليوم أن الهدوء هو سمتنا، وأننا — أبناء مصر العظيمة — نعرف أن الرقي لا يكون في ارتفاع الصوت، بل في كمال السلوك.
فلنُغلق “الكلكسات” في الشوارع، ونترك القاهرة تتحدث بصمتها المهيب، كما تتحدث الأهرامات منذ آلاف السنين.
أما العلم المصري، بألوانه الثلاثة، فعلينا — كما نرفعه بحماس حين نشجع فريقنا الوطني — أن نرفعه أيضًا في هذا اليوم العظيم. ليس لأن هناك مباراة، بل لأننا جميعًا في الميدان: ميدان الحضارة.
نرفع العلم لأننا جميعًا مصريون، ولأن لحظة الفخر بالوطن لا تقل قداسة عن أي مناسبة رياضية أو احتفال جماهيري.
وأقولها ببساطة: حول سحر الابتسامة، فالابتسامة الجميلة التي نظهر على وجه مصري وحدها كفيلة بأن تنعكس في عيون آلاف الزوار(ابتسم… الصورة تطلع حلوة).
وكم كنت أتمنى أن تقوم الجهات الحكومية المعنية بطباعة أعلام مصر بأعداد كبيرة وتوزيعها مجانًا على المواطنين والزوار في شوارع القاهرة، كما كانت يتم في مناسبات قومية عديدة ، فرفع العلم في يد طفل صغير أمام المتحف ربما يكون أعظم رسالة للعالم عن شعبٍ يعرف كيف يفرح ويُكرّم تاريخه.
في حقيقة الأمر لم يكن المتحف المصري الكبير مجرد صرح أثري ومعماري ضخم، بل نموذجًا رائدًا في الاستدامة والتخطيط الحديث؛ فقد حصل على شهادة EDGE للمباني الخضراء من مؤسسة التمويل الدولية في فبراير 2024 ، مما يجعل المتحف الأول في أفريقيا والشرق الأوسط، وواحدًا من عدد قليل من المتاحف في جميع أنحاء العالم، الذي يحصل على الشهادة.
كما نال المتحف ثماني شهادات أيزو في مجالات الطاقة والبيئة والجودة والصحة والسلامة المهنية، إلى جانب جائزة أفضل مشروع في مجال البناء الأخضر خلال منتدى البيئة والتنمية الذي عُقد بالقاهرة استعدادًا لمؤتمر المناخ COP27.
أما على الصعيد الرمزي، فقد دخل المتحف موسوعة غينيس للأرقام القياسية عام 2019، عبر لوحة فنية لقناع الملك توت عنخ آمون مكوَّنة من 7260 كوب قهوة على مساحة 60 مترًا مربعًا، كتحية فنية تعبّر عن المحبة والترحيب بالزوار من أنحاء العالم.
كل ذلك جعل من افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا عالميًا استثنائيًا، تصدّر عناوين الصحف الدولية بإعجابٍ وإشادةٍ واسعة ، ففي 14 أكتوبر الجاري، وصفت صحيفة “الغارديان” البريطانية المتحف بأنه «أعجوبة جديدة تنهض بجوار الأهرامات» ، فيما اعتبرته “لوموند” الفرنسية في أكتوبر أيضا «أيقونة ثقافية تضع مصر في مقدمة المشهد الحضاري العالمي» ، أما وكالة “شينخوا الصينية” في 22 أكتوبر ، فقد رأت فيه «جسرًا يربط بين الحضارات»، وفي تقرير لصحيفة “جلوب أند ميل” الكندية، أشارت إلى أن التجربة بعد التطوير «لا يمكن مقارنتها بما كانت عليه»، ووصفت المدخل الجديد للمتحف بأنه «أنيق ومصنوع من الحجر الجيري المحلي بدرجة لونية متناسقة مع الأهرامات»، مؤكدة أن مجموعة توت عنخ آمون تمثل «نقلة نوعية في تجربة السياحة المصرية».
أما موقع «ذا كولليكتور» الكندي، المهتم بالفنون والآثار فقال عنه إنه يقدم نظرة موسعة لتاريخ مصر العريق على هضبة الجيزة، تمتد لخمسة آلاف عام، وهو أكبر متحف فى العالم مخصص لحضارة واحدة.
كما كتبت صحيفة “الإسبانيول” الإسبانية أن مصر ستفتح صرحًا عالميًا «يروي فصول الحضارة الفرعونية من قلب الجيزة»، واصفة المتحف بأنه «منارة جديدة للتراث الإنساني».
أما مجلة “نيوزويك” الأمريكية فقد أبرزت في تقريرها أن الرئيس عبد الفتاح السيسي وصف المتحف بأنه «نقلة نوعية في عالم المتاحف»، مشيرة إلى أنه «أكبر متحف مخصص لحضارة واحدة في التاريخ».
في حين وصفت صحيفة “الكوديتيانو” الإيطالية المشروع بأنه «أضخم مشروع ثقافي في القرن الحادي والعشرين»، مشيدة بعرض كنوز توت عنخ آمون كاملة لأول مرة باعتبارها «رحلة فريدة في عمق الحضارة المصرية وسحرها الخالد».
وهكذا، تتجه أنظار العالم إلى القاهرة، حيث تواصل مصر كتابة فصل جديد من فصول الإبداع والدهشة في ذاكرة الإنسانية ، لتصبح مصر — كما هي دوماً — مركزاً للإبداع والدهشة في عيون العالم.
إن افتتاح المتحف الكبير ليس مسؤولية الحكومة وحدها، بل امتحان وطني للوعي والسلوك العام ، فكل مصري عليه أن يشارك في هذا الحدث، إما بحضوره، أو بسلوكه، أو بابتسامته ، فلنجعل هذا اليوم يومًا للفخر والسكينة والاحترام.
ولدينا في مصر شباب رائعون في كليات الألسن واللغات والسياحة والفنادق، يمكنهم أن يكونوا الواجهة الحضارية لمصر إذا أُتيح لهم المشاركة الفاعلة. هؤلاء الشباب هم القوة الناعمة التي تستحق أن تُمنح الفرصة لتعبّر عن بلدها بلغات العالم.
لنرفع علم مصر في كل مكان، ونُظهر للعالم أننا نستحق أن نكون ورثة أعرق حضارة في التاريخ.
ولنتذكّر دائمًا أن العظمة ليست في صخب الكلمات، بل في هدوء الأفعال وقوتها ورمزيتها، وأن مصر دائمًا عظيمة بأهلها قبل آثارها.
*عضو المجلس المصري للشئون الخارجية
والمستشار الاعلامي المصري السابق ببكين
 
															 
								 
								 
				 
															 
															 
					 
					


