الصين الواحدة والقرار 2758.. قراءة في أبعاد الحملة الغربية لاستهداف بكين

فتحى السايح و سارة احسان
تحتفل الأمم المتحدة هذا العام بمرور ثمانية عقود على تأسيسها، في لحظة فارقة يشهد فيها العالم تحولات جوهرية في بنية النظام الدولي وتوازناته. ومع أن هذه المناسبة كان يُفترض أن تكون محطة لتجديد الالتزام بمبادئ الميثاق الأممي وقيم السلم والتنمية المشتركة، فإن بعض الأطراف اختارت إعادة فتح ملفات حسمها التاريخ والقانون الدولي منذ أكثر من نصف قرن، وفي مقدمتها قضية تايوان ومبدأ “الصين الواحدة” الذي يمثل أحد الركائز الثابتة للنظام الدولي المعاصر.
حملة سياسية للتشكيك في القرار 2758
فبالتزامن مع الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة، تتجدد هذه القضية، من خلال حملة سياسية وإعلامية منسقة تقودها سلطات الإقليم بدعم غربي صريح، وعلى رأسه الولايات المتحدة، في محاولة لإعادة طرح مزاعم قديمة حول ما يسمى بـ“الوضع غير المحدد لتايوان”، بهدف التشكيك في القرار رقم 2758 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر 1971، والذي أقر بأحقية جمهورية الصين الشعبية في تمثيل الصين داخل المنظمة الدولية.
فعلى المستوى السياسي، ادعت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية في تصريحات لها أن وثائق الحرب العالمية الثانية، ومن بينها إعلان القاهرة وإعلان بوتسدام، لم تحدد أي منها الوضع السياسي النهائي لتايوان.
وهو ما ردت عليه الصين بقوة وحزم، فقد صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، لين جيان، في سبتمبر الماضي، قائلاً: “إن التحريف والتفسير الخاطئ للوثائق المتعلقة بالحرب العالمية الثانية على نحو أحادي من قبل الولايات المتحدة، لا يمكن أن يزعزع التزام المجتمع الدولي الراسخ بمبدأ صين واحدة”.
مشيراً إلى أن مبدأ صين واحدة يُمثل إجماعاً شاملاً للمجتمع الدولي، وحث الجانب الأمريكي على الالتزام بشكل كامل بمبدأ صين واحدة والبيانات المشتركة الثلاثة بين الصين والولايات المتحدة، والتوقف عن التلاعب بمسألة تايوان وعن التواطؤ مع ما يسمى “استقلال تايوان” وعن دعمه بأي شكل من الأشكال، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للصين.
واتصالاً، أصدرت وزارة الخارجية الصينية في سبتمبر الماضي، ورقة موقف رسمية، شددت فيها على أن القرار رقم 2758 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1971 يُشكل تأكيدًا حاسمًا وشاملًا لمبدأ “صين واحدة”، وأن أي محاولات لتشويهه أو الالتفاف عليه تمثل انتهاكًا صريحًا لسيادة الصين وللنظام الدولي الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية. كما أشارت الورقة بوضوح إلى أن الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية حاولت على مدى العقود الماضية خلق ما يشبه “صينين” داخل الأمم المتحدة، غير أن المجتمع الدولي رفض تلك المساعي بإجماع واضح، إدراكًا منه بأن احترام مبدأ الصين الواحدة يشكل حجر الأساس في استقرار العلاقات الدولية وحماية سيادة الدول واستقلالها.
وفي حقيقة الأمر، فإن قضية تايوان لم تكن يومًا مسألة إقليمية ضيقة، بل ظلت مرآةً تعكس عمق التنافس بين الشرق والغرب، ومؤشرًا على طبيعة التوازنات الجيوسياسية المتغيرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. فقد جاء القرار 2758 ليحسم مسألة التمثيل بشكل نهائي ويعد وثيقة الشرعية الأممية التي لا تحتمل التأويل، مؤكدًا أن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الممثل الشرعي الوحيد للصين لدى الأمم المتحدة، وأن تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية. وبذلك، أعيدت لبكين مكانتها الطبيعية كإحدى القوى المؤسسة للنظام الأممي بعد عقود من الإقصاء.
ومع ذلك، نشهد اليوم محاولات لإعادة تفسير القرار، بزعم أن “وضع تايوان غير محدد”، وهي مزاعم تتجاهل الحقائق القانونية والتاريخية، وتتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة ومع مبدأ السيادة ووحدة أراضي الدول، الذي يُعد أحد أركان النظام الدولي منذ عام 1945. فتاريخيًا، يستند الموقف الصيني إلى أسس راسخة أبرزها، إعلان القاهرة عام 1943، الذي جمع بين الرئيس الأمريكي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، وزعيم الصين آنذاك تشيانغ كاي شيك، ونصّ الاعلان بوضوح على ضرورة إعادة اليابان جميع الأراضي الصينية التي احتلتها، بما فيها تايوان. كما أكد إعلان بوتسدام عام 1945، الالتزام بما ورد في إعلان القاهرة، مما رسّخ في الوثائق الدولية تبعية تايوان الكاملة للصين.
ومن ثم، فإن الادعاء بأن لتايوان وضعًا قانونيًا خاصًا أو مستقلاً هو تحريف متعمّد يتنافى مع التاريخ ومع النصوص القانونية المعترف بها دوليًا.
الإعلام الغربي.. سلاح جديد في معركة قديمة
بالإضافة إلى الجانب السياسي للتشكيك في القرار 2758، فقد نشرت وتناقلت مصادر إعلامية غربية عديدة، منها وكالات مثل رويترز والمعهد الأمريكي في تايوان وReal Clear Defense و Business Live ، في الأشهر الأخيرة، تقارير ومقالات تزعم أن القرار 2758 “لا يتناول سيادة الصين على تايوان”.
ومن المؤكد الان أن الخطاب المنسق يكشف عن اتجاه إعلامي غربي جديد يسعى إلى زعزعة الأساس القانوني لمبدأ الصين الواحدة، في وقت تتعاظم فيه مكانة بكين الاقتصادية والتكنولوجية عالميًا. كما أنه يُعد محاولة لإحياء خطاب الحرب الباردة بأدوات ناعمة، تستهدف الرأي العام الدولي عبر الإعلام ومنصات التحليل الاستراتيجي، أكثر مما تستند إلى أي حجج قانونية حقيقية.
وفي حقيقة الأمر، فإنه لا يمكن فصل هذا التحرك الغربي ببعديه السياسي والإعلامي، عن الاستراتيجية الأوسع لاحتواء الصين ومحاولة تقويض مكانتها الدولية في إطار ما يشبه حربًا باردة جديدة تتخذ من المؤسسات الدولية ساحة للتجاذب والمناورة. كما لا يمكن فصله أيضاً عن السياق الأوسع للتنافس الجيوسياسي في القرن الحادي والعشرين، فالصين التي تحوّلت خلال العقود الأربعة الأخيرة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تمثل اليوم رمزًا للنموذج التنموي المستقل ومنافسًا حقيقيًا للغرب في مجالات التكنولوجيا والطاقة والتجارة الدولية.
ومن هنا، تسعي الولايات المتحدة والغرب باستخدام قضية تايوان كورقة ضغط مستمرة ضمن سياسات الاحتواء، سواء من خلال التحالفات العسكرية مثل (الرباعية) (QUAD) (الولايات المتحدة، الهند، أستراليا، واليابان)، وتحالف أوكوس (AUKUS) (الولايات المتحدة، بريطانيا، وأستراليا)، أو عبر الحملات الإعلامية والدبلوماسية التي تحاول خلق “صينين” في الخطاب السياسي الدولي.
ومن الغريب أن الولايات المتحدة تراوغ في مواقفها مع الصين. ففي يوليو 2025 رفضت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السماح لرئيس تايوان لاي تشينج-تي، بالتوقف في نيويورك خلال رحلته المرتقبة إلى أمريكا الوسطى، وذلك بعدما أعربت الصين عن اعتراضها على الزيارة لواشنطن، وفق ما ذكرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
موقف مصري ثابت
منذ انضمامها إلى الأمم المتحدة، تبنت مصر موقفًا ثابتًا يقوم على احترام مبدأ الصين الواحدة، واعتبرت أن وحدة الأراضي الصينية ركيزة لاستقرار النظام الدولي. فقد دعمت القاهرة القرار 2758 منذ صدوره عام 1971، وظل موقفها راسخًا في مواجهة محاولات التشكيك أو التسييس لهذا الملف.
ويشترك في هذا الموقف معظم دول العالم النامي، التي ترى في هذه الحملة الغربية عودة غير مبررة لسياسات الهيمنة القديمة، وتجاوزًا للإجماع الدولي الذي حسم المسألة قبل أكثر من نصف قرن.
الصين وتحويل التحدي إلى فرصة
إن الاحتفال بمرور ثمانين عامًا على تأسيس الأمم المتحدة ليس مجرد مناسبة رمزية، بل فرصة لتجديد الإيمان بالمبادئ التي قامت عليها هذه المنظمة، وعلى رأسها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
وفي هذا السياق، يمثل القرار رقم 2758 ومبدأ “الصين الواحدة” اختبارًا حقيقيًا لمصداقية النظام الدولي وقدرته على مقاومة محاولات التسييس والانقسام.
إن صعود الصين لا يهدد أحدًا، بل يقدّم نموذجًا للتنمية المستقلة والتعاون المتوازن، فيما تكشف محاولات التشكيك الغربية عن أزمة ثقة في نظام الهيمنة القديم.
ويبقى احترام وحدة الصين ليس فقط مصلحة صينية، بل ضرورة أممية لحماية استقرار العالم وضمان سلامه في العقود المقبلة.
وفي الختام، فإنه مع احتدام الحملات الغربية ومحاولات التشكيك في شرعية القرار 2758، تبدو الصين اليوم أمام منعطف دبلوماسي جديد يمكنها من خلاله تحويل هذا التحدي إلى فرصة لإعادة صياغة حضورها الأممي وتعزيز مكانتها كقوة استقرار دولي. فالصين التي استطاعت خلال العقود الماضية أن تجمع بين النمو الاقتصادي الهائل والالتزام بمبادئ السيادة وعدم التدخل، باتت تمتلك اليوم رصيدًا سياسيًا وأخلاقيًا يؤهلها للقيام بدور أكثر فاعلية في إصلاح النظام الدولي.
ويمكن لبكين أن تستثمر هذا الجدل الدولي حول قضية تايوان لتوسيع خطابها الدبلوماسي القائم على التعددية والإنصاف، وأن تطرح نفسها بوصفها نموذجًا لقوة مسؤولة تدافع عن القانون الدولي الحقيقي لا عن ازدواجية المعايير. كما أن تعزيز الصين لحضورها في الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية يتيح لها بناء تحالفات أكثر تنوعًا مع الدول النامية والاقتصادات الصاعدة التي تشترك معها في رفض سياسات الإملاء والهيمنة.
إن قدرة الصين على تحويل محاولات الاستهداف إلى رافعة دبلوماسية جديدة ستكون هي المعيار الحقيقي لنجاحها في المرحلة المقبلة، إذ لم يعد الصراع مجرد مواجهة على “التمثيل” داخل الأمم المتحدة، بل أصبح صراعًا على صياغة مستقبل النظام الدولي ذاته، بين من يسعى لاستدامة نظام الهيمنة القديم، ومن يعمل على بناء عالم أكثر عدلًا وتوازنًا وإنصافًا.