قراءة تحليلية في مستقبل مؤشر S&P 500 : تذبذب وول ستريت بين ضغوط السياسة وتحديات التكنولوجيا!

سارة إحسان واية حسين
كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
تشهد الأسواق المالية العالمية مرحلة غير مسبوقة من التذبذب الحاد، مدفوعةً بمزيجٍ من العوامل الاقتصادية والسياسية المتشابكة، في مقدمتها استمرار الإغلاق الحكومي الأمريكي وتراجع الثقة في استدامة أرباح شركات التكنولوجيا الكبرى. ففي الوقت الذي تجاوز فيه الذهب مستوى 4000 دولار للأوقية لأول مرة، وارتفعت أسهم بعض الشركات بفعل صفقات الذكاء الاصطناعي، تراجعت مؤشرات الأسهم الرئيسية، مما يعكس حالة القلق السائدة بين المستثمرين. ويبدو لي أن هذه المرحلة تمثل بداية إعادة تقييم شاملة للتوقعات الاستثمارية بعد موجة من التفاؤل غير المبرر، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي التي ارتفعت قيمها إلى مستويات تتجاوز الأسس الاقتصادية الواقعية.
وهذا التراجع في مؤشرات مثل ناسداك وستاندرد آند بورز 500، رغم بلوغها مستويات قياسية في اليوم ذاته، يكشف هشاشة الزخم الصعودي الذي قاد الأسواق في الأسابيع الماضية. فالمستثمرون بدأوا يتساءلون عن جدوى الإنفاق الضخم في مجال الذكاء الاصطناعي وعن العائد الحقيقي من هذه الاستثمارات. ويمكننا القول بأن المرحلة الحالية تمثل “تصحيحًا عقليًا” أكثر من كونها تصحيحًا سعريًا، إذ بدأ المستثمرون يدركون أن الأرباح الموعودة من التكنولوجيا المتقدمة لا تتحقق بالسرعة التي تُسوّق بها الشركات. ومن وجهة نظري، فإن هذا التحول في المزاج الاستثماري هو صحي وطبيعي، إذ يعيد التوازن إلى سوق بالغ التحمّس، ويمنع تكون فقاعة مالية قد تكون عواقبها وخيمة على الاقتصاد العالمي.
وفي المقابل، فإن الإغلاق الحكومي الأمريكي يضيف ضغوط أخرى من الغموض إلى المشهد الاقتصادي. فكل يوم يمر دون اتفاق سياسي يكلّف الاقتصاد الأمريكي مليارات الدولارات ويؤخر إصدار بيانات اقتصادية أساسية يعتمد عليها صانعو القرار والمستثمرون. ومع توقف صرف رواتب العاملين في قطاعات حيوية مثل النقل الجوي والدفاع، قد يبدأ الضغط الشعبي والسياسي في الارتفاع، مما يزيد من احتمالات إبرام اتفاق مؤقت، لكن مثل هذا الحل سيكون ذا طبيعة هشة ومؤقتة، ولن يعالج جذور الخلافات المالية والسياسية العميقة. لذا أرى أن استمرار الإغلاق لأكثر من أسبوعين قد يؤدي إلى انكماش في ثقة المستهلكين الأمريكيين، وربما يضعف زخم النمو الاقتصادي في الربع الأخير من العام، خاصة إذا ترافق مع تباطؤ في سوق العمل أو ارتفاع في تكاليف الاقتراض.
ومن المثير للاهتمام أيضًا أن نلاحظ التحول الواضح في سلوك المستثمرين نحو الأصول الآمنة، وعلى رأسها الذهب الذي تجاوز 4000 دولار للأوقية. وهذا الرقم ليس مجرد مستوى فني جديد، بل هو رسالة واضحة بأن المستثمرين لم يعودوا يثقون في استقرار السياسات المالية والنقدية. ويُعدّ هذا الارتفاع غير المسبوق إشارة إلى أن الأسواق تتوقع فترة مطولة من التوتر المالي وربما التضخم المزدوج الناتج عن الإنفاق الحكومي والاختلالات في سلاسل التوريد.
ووسط هذا الاضطراب، يبدو أن قطاع التكنولوجيا يعيش مفارقة فريدة. فمن جهة، تواصل شركات مثل AMD وOpenAI إثارة التفاؤل عبر شراكات ضخمة تعزز ثقة المستثمرين بإمكانات الذكاء الاصطناعي، ومن جهة أخرى، تشهد شركات مثل أوراكل وفورد وتيسلا ضغوطًا حادة بسبب ضعف الهوامش التشغيلية أو مشاكل الإنتاج أو المبالغة في تقييم المنتجات الجديدة. وهذه الازدواجية تعكس جوهر المرحلة الحالية: طفرة تكنولوجية حقيقية ولكن مصحوبة بتوقعات مالية غير واقعية. وأتوقع أن تشهد الأشهر القادمة حركة فرز قوية بين الشركات التي تمتلك نماذج أعمال مستدامة وأخرى تعتمد على الزخم الإعلامي فقط. وسيكون المستثمرون الأذكياء هم من يميزون بين القيمة الفعلية والقيمة السوقية المصطنعة.
كما، يبرز تراجع عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات كمؤشر دقيق على تصاعد المخاوف من الركود. فعندما ينخفض العائد بينما يرتفع الذهب والدولار في الوقت نفسه، فهذا يعني أن المستثمرين يتحوطون ضد كل السيناريوهات الممكنة، سواء التضخم أو الانكماش. ويعني أيضًا أن توقعات خفض أسعار الفائدة قد تعود إلى الاهتمام في حال استمر الإغلاق الحكومي أو تراجعت مؤشرات الثقة. وفي رأيي، فإن الاحتياطي الفيدرالي سيكون مضطرًا إلى تبني لهجة أكثر مرونة خلال اجتماعاته المقبلة، ليس فقط لدعم الأسواق بل لتجنب أزمة سيولة محتملة في النصف الأول من العام القادم.
أما في ما يتعلق بالمستثمرين الأفراد، فهناك سبعة أسباب رئيسية قد تفسر عدم حصولهم على استرداد ضريبي أو ضعف العوائد المالية هذا العام، وهي عوامل مترابطة بالوضع الاقتصادي الكلي. أولها، تغيّر الشرائح الضريبية نتيجة التضخم الذي رفع الدخل الاسمي دون زيادة حقيقية في القوة الشرائية. ثانيها، الإغلاق الحكومي الذي يعطّل معالجة طلبات الإقرار الضريبي. ثالثها، خسائر الأسواق المالية التي قللت من خصومات رأس المال المتاحة. رابعها، تراجع العوائد على الاستثمارات الآمنة كالسندات مقارنة بتكلفة المعيشة. خامسها، ارتفاع الفوائد على القروض مما زاد العبء الضريبي على المقترضين. سادسها، التعديلات الضريبية الأخيرة التي حدّت من بعض الإعفاءات للأسر ذات الدخل المتوسط. وأخيرًا، توسّع الفجوة بين الأجور الحقيقية والتكاليف المعيشية، مما جعل أي استرداد ضريبي محتمل يُستهلك فورًا في النفقات اليومية.
وبناءً على هذه العوامل مجتمعة، أرى أن الاقتصاد الأمريكي يدخل مرحلة “اختبار توازن” دقيقة بين الطموح التكنولوجي والواقع المالي. فبينما تسعى الشركات والحكومة إلى تسريع عجلة الابتكار، تواجه الأسواق ضغطًا متزايدًا من الديون والعجز والإغلاق السياسي. والتحدي الأكبر في المرحلة المقبلة سيكون الحفاظ على الثقة دون الوقوع في فخ الإنكار الاقتصادي. وإذا لم تُحلّ أزمة الإغلاق سريعًا، فإننا قد نرى انتقال العدوى إلى الأسواق العالمية عبر ضعف الدولار وتراجع السيولة، مما سيعيد رسم خريطة الاستثمار العالمي في 2026.
وباختصار، يبدو المشهد الحالي معقدًا لكنه ليس قاتمًا بالكامل. فالأزمات، رغم آثارها السلبية، غالبًا ما تفرز فرصًا استثمارية استثنائية لمن يمتلكون الرؤية الطويلة والقدرة على التحليل البارد بعيدًا عن ضجيج السوق. وبرأيي، فإن من يدرك اليوم أن الذهب لم يصعد مصادفة، وأن الذكاء الاصطناعي ليس عصًا سحرية، وأن الإغلاق الحكومي ليس حدثًا سياسيًا عابرًا، سيكون هو من يقود الموجة القادمة من النمو عندما تهدأ العواصف.