أخباراقتصاد عربي

المقومات الأربع لنموذج اقتصاد المستقبل: الإستثمار- الابتكار- السياسة-التمويل

بقلم الأستاذ الدكتور/ جمال شحاتة عميد كلية التجارة جامعة القاهرة

 

نقترح في سياق هذه المقالة أربع مقومات  هامة و التي يحتاجها اي اقتصاد وطني يسعى لجعل النمو الاقتصادي مستدامًا ومرنًا وشاملًا. هذه المقومات  الأربع هي نتاج لقراءة جيدة للمشهد الإقتصادي العالمي بما يحمله من تحديات ومعوقات وآمال ودون التحيز لتجرية اقتصادية معينة أو دولة بعينها وانما هي قراءة مجردة تعتمد علي الرؤية العلمية البحتة. وتكمن هذه المقومات  الأربع في كلمات أربع ومحددة بدقة ألا وهي (1) الإستثمار البديل، (2) الإبتكار، (3) السياسة الإقتصادية، و أخيرا (4) خلق مصادر التمويل المناسب. حيث تلعب الاستثمارات والابتكار والسياسة والتمويل دورًا مركزيًا في تحديد نموذج النمو الاقتصادي للقرن الحادي والعشرين.

فهناك فهم متزايد بأن الأزمات المتفاقمة التي تواجه العالم تأتي من الاتجاهات السائدة في مجتمعاتنا واقتصاداتنا التي أصبحت غير مستدامة. ومن هنا يجب علينا معالجة المشاكل الهيكلية الأساسية من مصدرها. ويتمثل التحدي في التعافي وإعادة البناء بطريقة تخلق نموًا اقتصاديًا مستدامًا وتحول اقتصاداتنا مع معالجة الضغوط الاجتماعية والبيئية التي تسببها نماذجنا الاقتصادية الحالية. ومن الواضح أيضًا أن هناك الآن نهجًا جديدًا وعمليًا للتنمية في جميع أنحاء العالم، وهو أكثر جاذبية من المسارات السيئة والعقيمة التي اتبعت في الماضي. واذا قبل العالم الجديد هذه الحقيقة، فعليه أن يستثمر ويتصرف بسرعة للوصول إلى اقتصاد مستدام يحقق تطلعات الأجيال القادمة ويعالج كثير من مشاكلنا الإقتصادية المزمنة.

والفرصة السانحة حاليا لنجاح هذا التحرك التجديد، ترجع إلي أن الحروب والانقسامات الجيوسياسية المتصاعدة التي نشهدها حاليا قد خلقت فرصة ثمينة للعالم كي يعمل سوياً وعالميًا، على أجندة واحدة يكون لجميع الدول فيها مصلحة كبيرة. وهذا بدوره يحقق فكرة العولمة الاقتصادية العادلة والتي تستند لفكرة التعاون من اجل الرخاء كبديل للتنافس الذي اثبت فشله وترك لنا دولا وشعوبا تعاني من الفقر والتخلف والحرمان من فرص نمو تحسن مستوي المعيشة العادل و لجزء كبير من سكان الأرض.

ركائز هذا النموذج الجديد تتبلور حول التحول الصافي والمتمحور حول الطبيعة، والنمو والابتكار القائم على الاستثمار، والنهج الشامل للاستفادة من المواهب البشرية أثناء إدارة انعدام الأمن، وعملية التعاون الدولي التي تعزز الأهداف المشتركة اي ستكون هذه قصة النمو الاقتصادي للقرن الحادي والعشرين. وفيها يحتل القطاع الخاص مركز الصدارة ، حيث تتراوح نسبة الاستثمار العالمي بين 80-90٪. وقد التزم جزء كبير من القطاع الخاص، على نطاق متزايد بسرعة، بالاستدامة والمسؤولية وصافي الانبعاثات الصفرية للكربون للحفاظ علي البيئة وسنشهد هذه التعهدات في قمة المناخ رقم 27 في نوفمبر 2022 والمزمع عقدها في مدينة شرم الشيخ بمصر.

ولذا سنشرح هنا نموذج للنمو الاقتصادي المستدام والمرن والذي يرتكز على محورية الاستثمار والابتكار والسياسة والتمويل في قيادة نموذج نمو اقتصادي جديد تسترشد به الدول ان رغبت في ادراك ثمار هذه الرؤية التي تستند للقراءات العلمية وللحوارات الاقتصادية حول ما يجب ان يكون بين رواد الاقتصاد فى شتى بقاع المعمورة.

وهنا نعرض بإيجاز لهذه المقومات  الأربع:

-المقوم الأول: الاستثمار في الأنواع الصحيحة من رأس المال والبنية التحتية صديقة البيئة

سوف يتشكل مستقبل الناس والكوكب من خلال الاستثمارات الرأسمالية المحققة على مدى السنوات العشر إلى العشرين القادمة، رأس المال الذي يمكن أن يقود نموًا اقتصاديًا نظيفًا وأخضر وغنيًا بالوظائف وأكثر صحة مما كان عليه من قبل. لدفع هذا التحول الاتقصادي منخفض انبعثات الكربون والتلوث المدمر، يجب أن يزيد الاستثمار العالمي بحوالي 2-3٪ من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا فوق مستويات ما قبل الجائحة. وسيكون هذا الاستثمار في المقام الأول في القطاع الخاص، ولكن يجب علي حكومات الدول أن تكمل هذا الاتجاه بمزيد من الاستثمارات العامة في لدعم هذا الإتجاه وتعمل جاهدة علي تحفيزه ودعمه.

ويتساءل القاريء هنا: لماذا نعتقد أن هذا ممكن تحقيقه؟ نقول وبوضوح نظرًا لأن نسب الاستثمار أقل بكثير من الإمكانات، فإن تحول الطاقة البديلة يفتح أسواقًا جديدة شاسعة، وتدر التكنولوجيا عوائد عالية بشكل متزايد، ويستمر العالم في إنتاج مدخرات فائضة يمكن أن تغذي هذه الاستثمارات. لا ينبغي أن يساء فهم الاستثمارات على أنها تكاليف. يمكنها دفع نمو اقتصادي أكثر كفاءة وأنظف وشمولية وخلق المزيد من الفوائد المشتركة بين الشركات والمجتمعات وهنا نشجع الاستثمار الطاقة البديلة. والاستثمار في السيارات التي تعمل بالكهرباء وانشاء منتجعات خضراء وسط المدن المزدحمة, ومنع السيارات الخاصة من دخول وسط المدن وان تستبدل بوسائل مواصلات صديقة للبيئة وعمل مساحات للمشى وركوب الدرجات علي غرار ما قامت به الحكومة المصرية في مشروع ممشى أهل مصر العملاق، كما نستثمر في ايجاد بديل لتحسين كفاءة وفعالية استغلال المتاح منها بدلا من اهدارها، كما علينا الاستثمار في زيادة التشجير وخلق مساحات خضراء جديدة وسط التجمعات المزدحمة وهذا تقوم به الحكومة المصرية حاليا كمشروع حديقة الشجيرات بالقاهرة القديمة بمنطقة الفسطاط والتي تعد الأكبر في تاريخ مصر المعاصر، وعلينا ايضا الاستثمار في نظم تغذية سليمة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية كل هذه الأستثمارات الجديدة والنظيفة حتما سيكون لها اثار بيئية واجتماعية واقتصادية وصحية ونهضوية ترفع من شأن المجمتعات اذا ما أعدت وفق خطط سليمة مدروسة ولايجب ان نغفل انها ستكون مستقبل النموذج الاقتصادي الجديد الذي بدات ملامحه تظهر في المجتمعات المتقدمة منذ فترة ليست وجيزة.

المقوم الثاني: الابتكار وتحويل النظم القائمة لتلائم البيئة الجديدة

يكمن الكثير من التغيير الهيكلي الأساسي المطلوب في تحويل الأنظمة الرئيسية للطاقة والنقل والصناعة والمدن والأرض. وتتطلب جميعها مجموعات من التغيير المؤسسي والمعايير والتنظيم والتصميم والسياسة الجيدة. و لحسن الحظ، تمكّن الثورات الرقمية والذكاء الاصطناعي من إدارة هذه الأنظمة بطرق جديدة. وعلينا ان نذكر هنا ان السبق في منطة الشرق الأوسط كان للتجرية المصرية بإنشاء مثل هذه الكيانات الرقمية في مدن الجيل الجديد كالعاصمة الادارية ومدينة العالمين الجديدة والتي بدأت كثير من بلدان العالم العربي في الإقتداء بهما.

فالإمكانات ستكون هائلة بحلول عام 2030، ولذا ايمكن أن تكون الحلول منخفضة الكربون قادرة على المنافسة في القطاعات التي تمثل ما يقرب من ثلاثة أرباع الانبعاثات، مقارنةً بربع اليوم (بشكل رئيسي في الكهرباء) ولن توجد قطاعات قبل خمس سنوات علي الأقل. وسيكون دعم القطاع العام والشراكة أمرين حاسمين للتكنولوجيات التي تواجه تكاليف أولية عالية وعائدات غير مؤكدة؛ ومن الأمثلة القوية على هذا التوجه العالمي، هو ما نشهده من مبادرات مثل Mission Innovation ، والتحالف الدولي للطاقة الشمسية، ومنهاج العمل المناخي ، واجندة ابتكارات قمة جلاسكو. ان مبادرات تخفيض انبعثات الكربون حتما سيكون له اثرا كبيرا علي النمو الاقتصادي للبدان كما انه سيضمن لنا اقتصادا مستداما. ونحي هنا رؤية القيادة المصرية في السبق في هذه المجال فكان انشاء اكبر محطة في العالم والتي يطلق عليها محطة بنبان للطاقة الشمسية بمدية اسوان المصرية.

المقوم الثالث: تطوير مجموعة من السياسات لتشجيع الاستثمار والابتكار والانتقال العادل للنموذج الإقتصادي الجديد.

 

يتطلب الدفع الكبير للاستثمارات والابتكار سياسة وحوكمة ذات مصداقية وداعمة بحيث يمكن أن تخلق الثقة في العوائد المستقبلية وتقضى علي تخوف المستثمرين. يعد تطبيق سعر على الكربون أمرًا أساسيًا لتحويل الإنتاج والاستهلاك بكفاءة نحو مصادر منخفضة الكربون. إلى جانب التسعير، ستتطلب التغييرات السريعة في استخدام الفحم والبنزين اتخاذ إجراءات تنظيمية لتجنب الزيادات الحادة في الأسعار بشكل غير مقبول. يجب إعادة تشكيل تصميم بلداتنا ومدننا بحيث نشجع الاتجاه نحو ركوب الدراجات، والمشي، واستخدام وسائل النقل العام، والمواصلات المشتركة. كما ينبغي اتخاذ الإجراءات المناسبة لدعم الانتقال العادل للمدن الجديدة، لضمان تقاسم فوائد وفرص التحول إلى اقتصاد جديد على نطاق واسع مع تقديم المساعدة علي نطاق كبير للمتضررين من الخسائر الاقتصادية أو الاضطرابات الناتجة عن اعادة توطين السكان نتيجة للتعديلات المطروحة في السياسة الجديدة. هذا هام جدا ويمكن ان نراه بوضوح في التجرية المصرية حيث يعاد حاليا بناء خارطة جديدة تسمح بوجود طرق وتجمعات سكانية لائقة تستوفي شروط التحول نحو خلق نظام اقتصادي مستدام وبيئة نظيفة للحياة وحماية الطبقات الفقيرة ونقلها من كيانات كانت عشوائية وغير أدمية.

المقوم الرابع: التمويل والتعاون الدولي من أجل النمو الاقتصادي المستدام

سيكون التعاون الدولي حول السياسات والتكنولوجيا والتمويل أمرًا حاسمًا لتحقيق الدفعة الكبيرة المطلوبة للاستثمار والابتكار إذا تم العمل في الوقت المناسب وعلى نطاق واسع. يمكن للمنصات أو الكتل القُطرية أن توفر نقطة محورية وتساعد في التغلب على العقبات الرئيسية أمام زيادة الاستثمارات في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، والتي غالبًا ما تتضمن عقبات سياسية ومؤسسية، ونقص في القدرة على تطوير المشاريع، وغياب قنوات موثوقة للشركات الكبيرة للحصول علي التمويل على نطاق واسع. في حين أن العديد من الاقتصادات المتقدمة لديها حيز مالي أو قدرة على الاقتراض، دخلت بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية في الأزمات الأخيرة بديون عالية وموارد محدودة. يجب أن تساهم تعبئة الموارد المحلية، والضرائب إلى حد كبير، في التمويل الإضافي. لكن التعاون المالي الدولي سيكون بالغ الأهمية لهذه الدول ومنها مصر للتحول المآمول لمصر والذي بدأ منذ سنوات ولكن مطلوب حمايته واستدامته بشكل يلبي طموحات الوطن.

لقد فشل المانحون من البلدان المتقدمة في تحقيق هدف 100 مليار دولار بحلول عام 2020 ، ولكن هناك فرصة للمضاعفة والإنجاز في عام 2022. علاوة على ذلك، نظرًا لأن التحدي المالي يتجاوز القدرة المالية إلى حد بعيد، يجب تمكين القطاع الخاص من المساهمة بأكبر قدر ممكن من التمويل. وهنا يحدد علماء الاقتصاد والاستثمار الدولي ستة مصادر رئيسية للتمويل في حاجة إلى التوسع ، كل منها يقدم مساهمات محددة وهامة وهي:

 

أولا: القطاع الخاص Private Sector: أكبر مصدر للتمويل من الناحية الكمية، ولكنه يعتمد بشدة على تنفيذ السياسات الجيدة والبرامج القطرية وإدارة المخاطر؛ إن تحالف جلاسكو المالي من أجل الوصول بصفر انبعثات كربونية، و الذي تم إطلاقه في قمة المناخ بمدينة جلاسكو الأسكتلندية رقم  26 أو مايعرف بـــــ COP26 ، قد يخلق إمكانات كبيرة في هذا الاتجاه.

ثانيا: التمويل الرسمي وفق الاتفاقات الثنائية Bilateral Official finance : يعتبر التمويل الميسر من المانحين الثنائيين أمرًا محوريًا لأولويات المناخ الدولية، بما في ذلك الانتقال العادل والتكيف والاستثمارات في رأس المال الطبيعي. يجب على المانحين مضاعفة التمويل الثنائي للمناخ من مستواه في 2018 إلى 60 مليار دولار بحلول عام 2025.

ثالثا: بنوك التنمية متعددة الأطراف Multilateral Development Banks : يمكن لبنوك التنمية متعددة الأطراف أن تلعب دورًا رئيسيًا في دعم تطوير البرامج والسياسات القطرية لتحسين تدفق رأس المال وتكلفته عن طريق تقليل المخاطر وإدارتها وتقاسمها. ستحتاج بنوك التنمية المتعددة الأطراف إلى مضاعفة قروضها المتعلقة بالمناخ ثلاث مرات من مستويات 2018 بحلول عام 2025. يجب على المساهمين الإصرار على التوسع ولكن أيضًا الوقوف وراءهم في دعم المخاطرة، بما في ذلك زيادة قاعدة رأس مالهم.

رابعا: الوكالات المتعددة الأطراف Multilateral Agencies: في حين أن المبالغ أقل من المبالغ المخصصة لبنوك التنمية المتعددة الأطراف، فإن مؤسسات مثل الصندوق الأخضر للمناخ (Green Capital Fund) ، ومرفق البيئة العالمية (Green Environment Facility) وصندوق التكيف The Adaptation Fund يمكن أن تكون ذات قيمة في تمويل والآخرين.

خامسا: العمل الخيري  Philanthropy: المنظمات الخيرية مجهزة تجهيزًا جيدًا لتوفير التمويل لأنشطة النمو التي تفتقر إلى دعم السوق ، مثل التكيف والمرونة ، ولا تخلق مديونية جديدة.

سادسا: أسواق الكربون الطوعية Voluntary Carbon Markets: من خلال المساعدة في تقديم التمويل للمشاريع التي تُظهر طرقًا مبتكرة لتقليل آثار الانبعاثات، يمكن أن تؤدي نماذج كلوريد الفينيل أيضًا إلى الاستثمار المبكر في التقنيات الخضراء التي من شأنها أن تفتقر إلى الحصول على التمويل ؛ مرة أخرى، علما بأن هذه لا تخلق مديونية جديدة.

الخلاصة:

هي ان مصادر التمويل الستة هذه مكملة لبعضها البعض. و يمكن أن يؤدي دمجها في السياسات والمنصات لتعزيز الاستثمار إلى إطلاق العالم على مسار جديد من التنمية الاقتصادية يحقق نتائج مذهلة. لذا حاولنا في هذا المقالة طرح اربع مقومات كركائز  جوهرية لنظام اقتصادي جديد يحقق الاستدامة ويحقق امال الاجيال القادمة

اقتصاد قوامه خلق نوع جديد من الاستثمار وتشجيع الابتكار وتطوير سياسات اقتصادية جديدة مع تنويع مصادر التمويل وتحقيق شراكة مالية مع القطاع الخاص ومؤسسات التمويل الدولية وكذلك مؤسسات االمجتمع المدني الداعمة لهذا التحول مع ضرورة الأخذ في الاعتبار خطط المؤسسات الدولية في الصحة والغذاء وفي الأجل االقصير علينا الدعم والتوعية للعبور بحالة الشك التي تتبناها بعض الافواه الغير واعية. والشيء الجميل في هذا الصدد ان مصر قطعت شوطا كبيرا وكان لها السبق في تبني هذا التحول علي مستوي المنطقة بالكامل.

خالص تحياتي أ.د جمال شحاتة 

عميد تجارة القاهرة